الأحد، 8 فبراير 2015

أفكر جدياً بمغادرة هذا العالم

أفكّر جدياً بمغادرة هذا العالم.
أفكّر جدياً في أن أغادر مخلفة ورائي كل ما أحبُّ و كل ما أكره ، كل مَن أحبُّ و كل مَن أكره ، أفكر في ترك كل الأشياء الصغيرة التي احتفظتُ بها مِمن أحبُّ دون أن يعني لهم ذلك شيئاً : المنديل المهترئ ، قلم الرصاص ، قطعة خشبٍ من كرسيٍ مكسور ، صورة لأشخاصٍ ثلاثة ما عادوا يعرفون بعضاً ، لوحةٌ مرسومة بألوان خشبية ، جواز سفر منتهٍ منذ خمسة عشر عاماً ، و كل الأشياء الأخرى التي تعني لي كل شيء و لا تعني لهم أيَّ شيء. أفكّر جدياً في أن أغادر تاركة كل القلوب التي تحبني تحترق ، كل الأفواه التي تحدّثني تدعو لي ، كل العيون التي تراني تبكي عليّ. هل يا ترى سيراني موتاً كل من كان يراني حياة ؟ ، كم من الأعذار ينبغي عليّ أن أسطّر قبل أن أغادر ؟ ، هل هناك عذرٌ .. سبب .. مبرر .. أو أي شيء يمكن أن يخفف من وجع الرحيل ؟ ، كلمة .. جملة .. نظرة .. أو أي شيء يمكن أن يقلل من وطأة الغياب ؟ ، لا أريد أن أفكّر في الوجوه التي ستكون حزينة اذا ما غادرت ، في العيون التي ستكون منكسرة اذا ما رحلت ، في القلوب التي ستكون محترقة اذا ما متٌّ ؛ أريدُ أن أفكر بأن هذه الأشياء ستنتهي و سأبقى بعد ذلك ميتة ، أريد أن أفكر بأني سأتحرر منك ، سأتخلص من عذابك ، سأنتهي من المأساة التي أعيشها جحيماً و يسمّيها الآخرون حياة. أريد أن أغادر هذا العالم و في عيني نظرة انتصار ، أريد أن أرحل و في قلبي رغبةٌ بالرحيل ، أريد أن أختار أن أموت و لا أريد أن أسمح لك بأن تقتلني.

أفكّر جدياً بمغادرة هذا العالم.
و أريد أن أعتذر لكل أولئك الذين سينظرون إليّ بنظرة عتابٍ منكسرة ، إلى كل أولئك الذين لن يسامحوني لأني لم أودّعهم ، إلى كل أولئك الذين منحوني أشياءً جميلة لم تُتِح لي تعاستي فرصة ملاحظتها ، أريد أن يسامحني أولئك الذين مسحوا دموعي ، و استمعوا إلى نحيبي ، و أمسكوا يدي في لحظة تيهٍ واجهتني ، أريد أن أعتذر لأولئك الذين يهمهم أن يروا وجهي ، و يسمعوا صوتي ، و يعرفوا أخبار يومي ، أريد أن أعتذر لأولئك الذين منحوني ما عجزتُ أن أمنحه لنفسي : شيء يسمى حياة. أريد أن يعتقوني لوجه الله ، أن يسامحوا بلادتي ، أن يعفوا عن قسوتي ، أن يترحموا عليّ دون دمعةٍ تؤذيهم من بعدي.

أفكّر جدياً بمغادرة هذا العالم.
تاركةً من بعدي كل الأحلام التي لم أحققها ، فلتسامحني الرواية التي لم أتمكن يوماً من إنهائها ، و الشهادة التي لم تسنح لي فرصة استحقاقها ، و الوظيفة التي لم أتمكن من الحصول عليها ، و البالون الذي لم أحلّق به عالياً ، و قفزة "الباراشوت" التي لم أقم بها يوماً ، و "المسدس" الذي لم أجرب الإطلاق منه أبداً ، و الحصان الذي لم أجرب ركوبه ، و المناطق الثلجية التي لم أزرها ، و رجل الثلج الذي لم أصنعه حتى الآن ، و البلاد التي لم أزرها ، و الكوخ الذي ما سكنته ، و اللغة التي لم أتقنها ، و اليخت الذي لم أتمكن من شرائه ، و كل الأحلام الأخرى التي لم أكتشفها بعد.

أفكّر جدياً بمغادرة هذا العالم.
و أريد أن يفهم هذا العالم لمَ لا أرغبُ بمصالحته ، أريده أن يعرف بأني أعجز عن تكوين علاقة انسجام معه دون أن أؤذيه أو يؤذيني ، أريده أن يكون على مرأى من قلبي الذي يتلوى ، على مسمع من صوتي التي يختنق ، على علمٍ بروحي التي تتمزق ، أريده أن يعلم بأن دموعي جفّت ، و كلماتي انتهت ، و صبري نفد ، أريده أن يرى كم أنا وحيدة و ضعيفة و مهترئة ، أريده أن يدرك بأن الحبل الذي يربطه بي يقتلني كما لو كان حبل مشنقة ، أريده أن يفهم بأني أعاني و أتألم و أحزن في كل لحظةٍ أقضيها معه ، أريده أن يدرك بأني لا أرغب بمغادرته و لكني مجبرة على ابتلاع هزيمتي و الرحيل.


أفكّر جدياً بمغادرة هذا العالم ، و لكني أجبنُ من أن أفعل ذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

حدائقي تذبل دون هطولكم ، أمطروني بغيثكم لكي أحيا ..